179

الرواقيّة , قوّة اللامبالاة

كان الإمبراطور ماركوس أوريليوس أقوى رجل في العالم , وقد قاد جيشًا تهابه كل أركان المعمورة

و كان بإمكانه أن يضاجع أي امرأة يشتهيها إن أراد

و يظلّ يسكر و يحتفل لبقيّة حياته

من الصعوبة بمكان أن نتخيّل القوّة المطلقة

لا يستطيع الناس حسن إدارة القوّة و لم يتمكنوا من ذلك في الماضي

حيث تفسدهم القوّة و يستحيلون عبيدًا لأطماعهم وتوقهم للمزيد

لكن ماركوس أوريليوس كان مختلفًا ,فقد كان امبراطور روما وكان يعي جيدًا أن المتع المؤقتة متاحة للجميع دون حدود

بخلاف ولده كومودوس ,امتنع عن حفلات العربدة و السكر المفرط,

كما ترفّع عن مشاهدة المشاهد الساديّة المريضة في مسرح الكوليسيوم حيث كانت تذهب صفوة الرومان للتسلية

لقد كتب عن اعتزامه وجهاده مع نفسه في مذكراته التي لم تكن في نيّته نشرها و المسمّاه التأملات

أصبحت التأملات العمل الرئيسي للمدرسة الفلسفيّة المسمًاة بالرواقيّة و التي يزيد عمرها عن 2000 عام

"قوّة اللامبالاة"

لاحظ الرواقيّون أنه وِفقًا للمنظور البشري , يمكن التمييز ما بين فئتين مختلفتين

أمورٌ يمكننا التحكم بها و أمورٌ لا يمكن أن نتحكّم بها

الفيلسوف الرواقي أبيكتيتس , بدأ كتابه بالمبدأ الأساسي للرواقيّة و الذي ينص على أن معظم الأشياء لا تعود إلينا

بالتفكير في الأشياء الخارجيّة كالأصدقاء و الزملاء و شركاء حياتنا

أو الاقتصاد وعدد الإعجابات على فيسبوك و الوعود السياسيّة أو تدهور حالتنا الجسديّة

نعم يمكننا التأثير على كل تلك الأشياء

لكن حتى لو قمنا بكل شيء على أكمل وجه , يظلّ الاقتصاد معرّضًا للانهيار

كما يمكن أن نفقد أموالنا أو يخوننا شريك حياتنا أو يموت

وفي نهاية المطاف ليس بيدنا حيلة حيال الحظّ العاثر

قد يبدو ذلك محبطًا و تشاؤميًا , لكن لا داعي للقلق فهناك أشياء لا تزال في مجال تحكّمنا

وِفقًا لأبيكتيتس فإن تلك الأمور هي , آراؤنا , تصرّفاتنا ,وبعبارةٍ أخرى , هي الموقف الذي نتخذه حيال العالم المحيط بنا

وِفقًا لأبيكتيتس , يجب أن نركز على الأمور التي بإمكاننا التحكّم بها و لا نبالي بما هو خارج نطاق تحكّمنا

شخصٌ مريضٌ بداءٍ عضال , بالطّبع لا يمكنه التحكّم في مرضه

يمكننا تخفيف الأعراض و اتباع آليات الشفاء مع تمنينا لأن يبرأ هذا المريض لكن تبقى النتائج خارجه عن نطاق تحكّمنا

ومع ذلك فإن ذلك الشخص بإمكانه اختيار الموقف الذي سيتخذه حيال ذلك الموقف

عندما يتقبل الإنسان وضعه المرضيّ بالكامل وكذلك احتماليّة وفاته , سوف يصل للسلام الداخلي

بالمناسبة , تلك ليست نصيحة طبيّة , بل فلسفية

كما إنّ العقل الهادئ يتسنّى له التصرّف بعقلانيّة و منطقيّة مما يمكن أن يزيد من فرص الشفاء

الأخلاق الرواقيّة تحتوي على قيم مختلفة

لم أكتشف بعد الصيغة المتينة التي تحتوي على توليفة القيم تلك مثل الوصايا العشر

لكنني اكتشفت أن الرواقيّة تهدف إلى العيش بتناغمٍ مع الطبيعة

تشير كلمة الطبيعة إلى الانتماء لكلٍ أعظم و دورنا في الطبيعة أننا كائنات بشريّة

من منطلق فطرتنا , علينا أن تصرّف لما فيه إفادة الكل

لا ينبغي أن تصرّف بطريقة تعاكس الدورة الطبيعيّة للأشياء بل يجب أن نتناغم معها

بعكس ما قد يعتقد البعض , الرواقيون ليسوا متبلّدي المشاعر

بل إنهم يرون المشاعر باعتبارها خصالٌ بشرية يمكن تفسيرها منطقيًا

حيث لا تحدد المشاعر بنفسها حالتنا المزاجيّة بل يحددها الموقف الذي نتخذه نحن حيال تلك المشاعر

التفكير بتلك الطريقة يعتبر نوعًا ما علاجيًا لأنه يجعلك واعيًا بمشاعرك بل حتى يعينك على أن تراها تذهب و تجيء مثل موج المحيط

بتلك الطريقة لن تعد تلك المشاعر مصدر إرباكٍ لك

الرواقيون المعاصرون ركزوا على عدة ممارسات تعين على بلوغ السلام الداخلي

مثل ما يعرف بالتصوّر السلبي

ماركوس أوريليوس كان يتعامل يوميًا مع كل أنواع الناس المزعجين

وبممارسته للتصوّر السلبيّ , تمكّن من إعداد نفسه لمثل تلك المواجهات

كان يخبر نفسه ,

"اليوم سأقابل التشويش و الجحود و الوقاحة و سوء النيّة و الأنانيّة

وتصدر تلك الأفعال عن المعتدين بسبب جهلهم بالخير و الشر"

لا يفتأ الرواقيون عن تذكير أنفسهم بأن الحياة مؤقتة ما أسموه"Momento mori"-تذكّر الموت-

لذلك فلن يضيعيّون الوقت في التفاهات و لايأخذون الحياة على محمل الجد من وجهة نظري

هناك تمرينٌ آخر يسمى رؤية نفسك من الأعلى أي نرى أنفسنا من منظورٍ كوني

لندرك مدى صغر حجمنا و عدم أهميّتنا بالنسبة للكون العظيم المتسع

تلك اللامبالاة تولّد قوّة يعرفها الرواقيّون جيدًا

الحياة قصيرة لذلك علينا أن ننفق طاقتنا فقط على الأمور الضروريّة الهامّة

ونترك الأمور الغير مهمة

تُعد الرواقيّة آداة مساعدة خصوصًا في الوقت الحالي فهي تمنحنا الإرشاد لكي لا نغرق في بحرٍ من المثيرات و الملهيات

شكرًا للمشاهدة

"قناة الوحيد"